الحمودي : إعتقال الصحفيين يؤكد نمط جديد من دولة القمع وبإختلاق ملفات الجنس لتربية الناس على المقاس!!
المفكر عبد الله الحمودي ….
النظام بقي هو هو، لكن، منذ 22 عاما، تغير الشيء الكثير، ورغم ذلك، فإن الثابت في كل هذا هو أن اللحمة الشعبية لم يؤثر فيها تغير العهود. هذا ما ترصده عين عالم الأنتروبولوجيا، عبد الله حمودي، صاحب كتاب «الشيخ والمريد» وكتب عدة فكك فيها نظم السلطة والسلطوية في المغرب. يؤكد أن السياسة بالأساس نظم ونواميس، لكن للرموز دورها ومكانتها كذلك؛ وأن اليوسفي كان رمزا وصاحب كلمة مسموعة، وأنه لم يكن ليسمح ببعض ما يحدث الآن لو كان على كرسي رئاسة الحكومة.
توفي الزعيم الوطني عبد الرحمان اليوسفي بعد مرور 22 سنة على تجربة التناوب التوافقي، التي أنهت مسارا طويلا من الصراع بين الملكية وبعض الأحزاب المنضوية في ما يُعرف بالكتلة. بعد كل هذه السنوات، هل لاتزال نافذة الدمقرطة مفتوحة ؟
في نظري، الأمر الذي لايزال مفتوحا هو الدمقرطة كما يريدها النظام، إذا كانت هناك دمقرطة بالفعل. لا يمكن القول إن الباب، الذي فُتح حينما إلتقى اليوسفي رحمه لله والحسن الثاني رحمه لله، لايزال مفتوحا. لقد مر تاريخ، وهناك دستور جديد، وممارسات جديدة تتراكم، وهذه الممارسات تظهر أن هناك إختلافا حول الدمقرطة وحول الديمقراطية. هناك من يقول لقد باشرنا التناوب وإن هناك ديمقراطية، وهناك من يقول إن هناك نافذة فتحت فيها أبواب على إصلاح النظام وعلى الدمقرطة، بمعنى توفر الضمانات الملموسة كي تكون هناك مؤسسات ديمقراطية راسخة.
تلك النافذة لم تظل على حالها، كما قال اليوسفي نفسه من بروكسيل.
في صيف 2002، جرى تعيين إدريس جطو على رأس الحكومة رغم أن الإتحاد الاشتراكي كان هو الحزب الفائز، وإعتبر اليوسفي الأمر آنذاك إنقلابا على المنهجية الديمقراطية. هل نعيش نهاية هذا المسار؟
يبدو لي، اليوم، أنه منذ تعيين جطو ومغادرة اليوسفي بعد ذلك، لم يُمنح هذا الأخير فرصة أخرى لإعادة التفاوض وإعادة تكريس نظم وممارسات ديمقراطية، وظهر أن النظام يريد إصلاحات على مقاسه، وهي التي جسدها الدستور رغم هزة 20 فبراير، وهو يعمل على أن يتقبل الناس هذا الإنفتاح على المقاس. لا أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال ؟ ، فالمشكل أن كل شيء مختل منذ البداية، كان هناك بعض الناس مع اليوسفي يقولون إن الحسن الثاني لم يمنحه الضمانات الكافية، وإنه ما كان له أن يقبل بدخول تجربة التناوب، وهؤلاء إنسحبوا، وقبل اليوسفي وحزبه دخول تجربة التناوب، التي أعطت نوعا من الإنفتاح، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير والحق في التنظيم، لكن النظام كان يتحكم في تلك النافذة منذ البداية، ولم تكن هناك ضمانات كافية كي تتقدم الأمور، والدليل أنه في الإنتخابات الأولى بعد رحيل اليوسفي جرى تأويل أحد البنود، وتولى جطو الوزارة الأولى في حكومة تقنوقراط. وفي ما يخص حكومة التقنوقراط، أؤكد أنه حتى ذلك الفضاء الذي كان النظام يسمح به وأراد التفاوض حوله مع القوى الديمقراطية، كان متحكما فيه. وحينما نتحدث عن التراجع، ينبغي أن تكون هناك مكتسبات كبيرة تحققت، في حين أن أكبر مكتسب لم يتحقق نهائيا، هو حق القوى الديمقراطية في التفاوض مع المؤسسة الحاكمة، وهي الملكية، بشأن تقاسم مناصب القرار.
في تلك المرحلة، وإلى حدود اليوم، هناك أصوات تقول إن تعيين اليوسفي هو مجرد «مناورة» من الحسن الثاني من أجل تهييء إنتقال سلس للعرش؟
أنا لا أحبذ نظرية المؤامرة، ثم إنني لم أدخل عقل الحسن الثاني لأعرف هل كان يناور أم لا ؟ .
ما ألاحظه هو أن الإتفاق مع اليوسفي جرى في مرحلة حساسة جدا، كانت تتميز بإنتقال الحكم من ملك إلى ملك آخر، وتلك المرحلة كانت ضاغطة وحاسمة في تلك الظرفية، وقبل ذلك كانت هناك أزمة يعرفها النظام إعترف بها الراحل الحسن الثاني. في تلك المرحلة حدث إتفاق مع اليوسفي، وجرى تسطير التناوب وتطبيقه. الآن، وبعد مرور الزمن يمكن القول إن أهم ما جرى إنجازه هو تثبيت أسس النظام القائم، هذا ما يمكن أن أقوله. وكما قلت سابقا، لا يمكن تخمين ما كان يفكر فيه الحسن الثاني، أو ما كان يجول برأس اليوسفي.
في تلك المرحلة جرى فتح نافذة للحريات، كما أفراج عن المعتقلين السياسيين، وبدأ الحديث عن المصالحة. الآن، وبعد مرور كل هذا الزمن، هناك أصوات تطالب من جديد بضرورة إحداث انفراج سياسي ، هل نحن ندور في حلقة مفرغة ؟
هذا صحيح في مرحلة حكومة التناوب، كانت هناك ملفات كبيرة، منها ملف الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حصلت في الماضي، وكان ينبغي تصفية الملفات، وبالفعل جرى حلها، وغالبية الناس قبلوا بذلك، مع أن تلك التصفية كانت عليها تحفظات، وأنا كذلك كانت لدي بشأنها تحفظات.
قبل إعداد هيئة المصالحة، كانت لدي تحفظات مكتوبة، ولست وحدي من كانت له، لكن أغلبية الآراء كانت تقول إن ما أنجز في تلك المرحلة كان كافيا. آنذاك كان حاضرا مفهوم الإصلاح الديمقراطي والإنفراج. الحقيقة أنه كان هناك إنفراج، لكنه لم يكن إنفراجا مدعوما بقوانين. كان هناك إنفراج لأنه إجتمعت عدة عناصر؛ تصفية الملفات الحقوقية، ومرحلة إنتقال الحكم من ملك إلى ملك، وكذلك الأزمة التي كان معترفا بها في سائر البلاد، وقد لعبت كل هذه الأمور دورا لإحداث ذلك الإنفراج.
وقد كان هناك إنفراج بالفعل، بما فيه تحرير السجناء وتسوية ملفات عالقة في مجال حقوق الإنسان ، وإن لم تكن كلها. وكان هناك إنفتاح كبير وحرية للرأي، وجرى تأسيس جرائد جديدة، لكن كل هذه الأمور هي في الواقع ممارسات أقدم عليها النظام في إطار علاقته مع القوى السياسية آنذاك.
طبعا، لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي لعبه اليوسفي لأنه مناضل كبير ومجاهد، وكانت له مبادئ، وكان معه ناس آخرون وسعوا اللعبة السياسية في إتجاه ممارسات ديمقراطية، وفي إتجاه دولة الحق والقانون. لذلك، لا أظن أن تلك الأمور جرى تكريسها قانونيا. لكن الذي كُرِّس في مرحلة لاحقة هو الدستور الجديد بعد حركة 20 فبراير، والذي كتب بطريقة نعرفها؛ دائما نصف إنفتاح، ولايزال النظام يقبض على مفاتيح من داخل الدستور كي يغلق الباب من جديد.
على ذكر الإغلاق، أتذكر في حوار معك بهذه الجريدة، في مرحلة ما عرف بـ«البلوكاج»، كنت قد قلت إنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، ردا على من إعتبروا الأمر إغلاقا للقوس، في إشارة إلى أن التراكمات التي خلقتها مرحلة 20 فبراير خلقت تحولا في الذهنيات لا يمكن الرجوع معها إلى الوراء. الآن، وفي هذه المرحلة، هل مازلت تقول إن عقارب الساعة لم تعد إلى الخلف؟
أنا متشبث بذلك الرأي، وسأوضح لماذا ؟ بالنسبة إلي، فإن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود بعدما ذهب اليوسفي، ولا يمكن إرجاعها بعدما ذهبت المكتسبات المتحصل عليها في الميدان السياسي والصحافي. هذه أمور جرى تسجيلها، ولا يمكن إزالتها أو القول إنها غير موجودة. وعقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى ما قبل فبراير 2011 وكأنه لم يكن، وعقارب الساعة لا يمكنها الرجوع بعد التخلي عن تزمامارت وتخريبه وبعد شهادات من عانوا فيه. كل هذه الأمور مسجلة في التاريخ وفي ذاكرة المغاربة. إنما المحاولة التي تقع الآن، هي إعادة عقارب الساعة إلى ممارسة سياسية وإلى نظم كان معمولا بها سابقا، وهي تنتمي إلى ميدان حكم ساد قبل كل هذه الأمور التي ذكرت لك. لكني مازلت متشبثا بأنه رغم ما يُفعل الآن، فإن عقارب الساعة لن تعود إلى الخلف، والذي يتكرر هو أن النظام يقلص من المكتسبات التي كانت، لكنه في الآن نفسه شيد واجهة الديمقراطية، فهناك برلمان ومجالس منتخبة ونخب دخلت اللعبة السياسية، وتقول إن هناك مجالا للديمقراطية، وإنه يجب علينا فقط أن نعمل، وإنه ليس مقبولا أن يأتي أحد ويضع هذا الاختيار محط علامة إستفهام. ممارسات النظام الجديدة لا تقبل الناس الذين لا يريدون الدخول في اللعبة السياسية، التي لا تقبل الضغط ولا تقبل حرية كاملة للصحافة والرأي.
عقارب الساعة لا يمكن أن تعود، فالتاريخ وذاكرة المغاربة سجلا تلك التطورات، وما جرى التراجع عنه هو المكتسبات التي كانت قبل عشرين فبراير ونادت بها حركة 20 فبراير، وكان هناك نوع من التجاوب معها بدستور جديد، كرس، في نهاية المطاف، المعطى المتمثل في أن النظام هو الذي يقرر.
أشرت إلى أن تلك المرحلة شهدت إنفتاحا في حرية الصحافة، رغم أن «لوجورنال»، مثلا، جرى إغلاقها في عهد اليوسفي، كيف تنظر إلى هذا التقابل بين المرحلتين في ما يتعلق بالحريات وآليات التضييق عليها ؟
نعم جرى إغلاق «لوجورنال» في عهد اليوسفي، لكن لم يُقدم بوبكر الجامعي للمحكمة بملف أخلاقي ويُحكم عليه بعشر أو عشرين سنة سجنا، مثلا، هذه ممارسات جديدة. حجز الجريدة خرق للحق في التعبير، وقد جرى إغلاق «لوجورنال» و«الصحيفة»، وأتت بعدهما جرائد أخرى مارست الصحافة، وكانت المقاولات الصحافية تعاني التضييق المالي، وأحيانا أثناء الطبع، عندما لا يقبل أصحاب المطابع طبع عدد ما. لكن المستجد حاليا هو أنه يراد أن تمارس الحرية على مقاس الدولة، وإذا جرى الخروج عن ذلك المقاس، فلن تحجز الجرائد فقط، بل سيجري إصطياد رؤوس الصحافيين الذين لهم أفكار ويكتبون. لم أر في عهد اليوسفي هذا العدد من الصحافيين المعتقلين اليوم، هذا شيء جديد، وهذا نوع جديد من دولة القمع، التي أصبحت تقمع بالقضاء. سابقا، كان الصحافيون يُعتقلون بتهم جنائية وبملفات يفندها رجال ونساء القانون في المغرب وعلى الصعيد العالمي. الآن يجري إستعمال صحافة التشهير، وهذا أمر جديد أيضا. أظن أن هذا القمع الجديد يهدف إلى «تربية» الناس على مقاس الممارسة السياسية والهامش الديمقراطي كما يراه النظام.
قلت إنه في عهد اليوسفي لم يكن الصحافيون يعتقلون بكثرة كما يحدث الآن، هل هذا يعني أن الجرأة إزدادت أكثر، أو أن هناك انزياحا نحو السلطوية أكثر، أم ماذا ؟
في عهد اليوسفي، كان المغاربة خارجين من مرحلة حالة الإستثناء، ومن سنوات القمع في عهد الحسن الثاني، وكانت تلك الذاكرة مازالت مؤثرة، لكنهم، في الآن نفسه، كانوا يعرفون أن ماكينة الإكراه يمكن أن تقوم بشيء دون علم اليوسفي، لكن، لا يمكن أن يقع ذلك، وفي الصباح يجلس اليوسفي على كرسيه ويعلم أن المهداوي مثلا في السجن، هذا لم يكن ممكنا. كانت هناك أمور لا يمكن تجاوزها. لهذا أظن أن تنحية اليوسفي جرت بسرعة لأن الرجل ناضل طيلة حياته وصار رمزا، ويعرفون أنه لا يمكن أن تتصل به صباحا، وتخبره، وهو وزير أول، بأن هناك من يطبخ ملفات الجنس، ثم يتقبل الأمر. هذا لم يكن ممكنا في عهد اليوسفي. الآن، وكما أقول بشكل ساخر: تبارك الله كاين واحد رئيس الحكومة ينهض في الصباح، ويتناول فطوره ويذهب إلى مكتبه، ويُعتقل الصحافيون بالباطل ويُحاكمون. هذا لم يكن بالإمكان فعله مع اليوسفي. وأنا لا أعني أن السياسة شخصيات، نعم هي نواميس وقواعد وغير ذلك، لكن كان هناك إنفتاح على القوى الديمقراطية وكذلك على الرمز، في تلك الأجواء، كان لا بد من ذلك الإنفراج للإنتقال من رئيس دولة إلى آخر. تلك الصفقة كانت ضرورية، لكن لم يكن ضمنها القيام بأمور ضد الصحافة وضد الصحافيين، لأنهم يعرفون أن اليوسفي لن يقبل بذلك، بل إنه كان إذا قال كلمة فإنها كانت تُسمع، فالأحزاب كان لها ثقل وكذلك الشخصيات، لكن حاليا، ذهب هذا الثقل ولم يعد.
في حوارين مع جريدة «أخبار اليوم»، قال بوبكر الجامعي إن «الدستور هو عريضة جميلة ودستور فاشل» لأنه لم يكرس فصل السلطات، في حين إعتبره محمد الطوزي إنعكاسا للمستوى الذي بلغه المجتمع وما أفرزته موازين للقوى. ما رأيك في هذين الرأيين؟
لا أتفق مع الرأيين، كما أنني لا يمكن أن أقول إن الدستور مجرد عريضة، بل هو نص قانوني كيفما كانت عيوبه وثغراته، وقد كتبت عنه بوضوح. هذا نص قانوني جامع. كيف جرى حبكه وتدوينه؟ وما هي الآليات؟ هذا سؤال وجيه. هي آليات قديمة كأنه لم تكن هناك تجربة تناوب. جرت صياغة الدستور بطريقة تقليدية، وهي أن رئيس الدولة نادى من يريد، وهذا ليس تشكيكا في مبادئ رئيس الدولة ومعاييره، فهو من يحدد الحقل السياسي في الأحزاب والنقابات والأوساط والمختصين في القانون الدستوري، وبعد ذلك تؤسس الهيئة، التي جرى جمعها بتلك الطريقة. طبعا، تكون هناك مشاورات بين الناس أفرادا أو جماعات. مثلا، كانت هناك مشاورات بشأن حرية العقيدة، ورفضها حزب أو عدة أحزاب. نعم، كانت هناك مشاورات، لكنها جرت بهذه الآلية التقليدية ؛ وأمرهم شورى بينهم، دون تقنين للكيفية التي يجب بها إنتقاء الناس الذين يجري التشاور معهم. كان يمكن إقامة لقاءات موسعة في العواصم الكبرى للبلد، تضم مثقفين ومختصين، وأن يفتح نقاش حول مفهوم الدستور وما يحتويه، وكان يمكن توسيع الأمر، وأن تصاغ مسودة ثم تنبثق لجنة مصغرة للصياغة النهائية، بتشاور مع المؤسسة الملكية طبعا. إذن، الدستور ليس عريضة. لكن أن يقال إن ذلك هو ما بلغه مستوى الشعب، فهذه فكرة زائفة لأنها تتعلق بفهم شخصي للمستوى الذي بلغه الشعب، وأن يقرر أحد ما المستوى الذي بلغه الشعب، فهذا من مظاهر السلطوية، كأن يأتي شخص ويقول: «هذا هو مستوى الشعب ولا يمكن تجاوزه»! يمكن أن يكون مستوى الشعب أقل من تلك اللجنة التي أنشئت، وبهذا المنطق كان يمكن أن تزيل أمور من الدستور، وأن تُرفض لأن الشعب لم يصل إلى مستواها. الجواب عن هذا هو أن الدستور، كما مجموعة من القوانين، يجري وضعها للارتقاء بذهنية الناس وبالممارسات. ولا يُنشأ دستور على مقاس أناس لا يعرفون، مثلا، ما هي الحرية السياسية. إذا أردت إنشاءه وفق طبقة كبيرة في المغرب، فإن طبقة كبيرة في المغرب لا تؤمن إلا بأهل الحل والعقد، وستقول لك إنه ليس كل شخص له الأهلية الفكرية كي يعطي رأيه بالسياسة…
إذن، كان ينبغي أن يقال إن أهل الحل والعقد فقط هم من لهم هذا الحق. هذا فكر زائف، الدستور بطبيعته هو مجال للمناقشة، وليس مجالا لأن يقرر فيه أحدهم بحكم معرفته بمستوى الشعب، لذلك سينشئ دستورا في مستواه. الدستور ليس عريضة، وليس أمرا تدوينيا وفق نظرية المستوى الذي بلغه الشعب. يُنشأ الدستور بمعرفة المجتمع، مع الأخذ بعين الإعتبار تنوع المعارف والمستويات في الشعب، ويجب أن يناقش.
لننتقل إلى النخبة ومستواها، إذا عدنا إلى بداية التناوب، وأردنا مقارنة النخبة، من ناحية مستواها والدور الذي كانت تلعبه في العلاقة بالسلطة، بوضعها الحالي، كيف تنظر إلى الأمر؟ ثم هل تركيبة النخبة ومفهومها لم يطرأ عليهما تغير، خاصة مع دور وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل هي مفهوم ثابت ؟
هذا مشكل عويص، دعيني أبدأ بنوع من التدقيق، إذا كنا نتحدث عن الحقل السياسي والسياسة وممارسة السياسة، فالنخبة تتكون طبعا بالمعرفة والتمدرس وغير التمدرس وهذه المعايير كلها، كما تتكون بالممارسة السياسية، فمثلا، النخبة قديما إلى حدود السبعينات وحتى بعدها، كانت تتشكل في الوسط الطلابي ومسؤولياته ونضالاته في هذا الوسط. أريد أن أقول إن النخبة في هذا الجانب تتكون من خلال الممارسة السياسية. فالنخبة ليست فقط مستوى تعليمي أو مستوى ثقافي أو شواهد كبرى. النخبة تتربى كذلك في الإدارة، حيث يظهر فيها نساء ورجال، كيفما كانت إنتماءاتهم السياسية، يتعلمون من التجربة ويتفقهون منها، سواء كانوا داخل منظومة النظام أو خارجها. تتكون النخبة، كذلك، في مجالات أخرى؛ مثلا وسط رجال ونساء أعمال. يظهر لي اليوم أن النخبة المغربية توسعت وتقوت، وأن المشكل يكمن في إستيعاب النخبة وإقناعها بتولي الأمور، وأنه إذا تولت الأمور، فلن توضع العقبات في طريق إنجازها ما تؤمن به. إذن، النخبة إتسعت، لكنها غير مستوعَبة. النخبة الموجودة الآن في الدولة والبرلمان وباقي المؤسسات، توجد فيها شريحة تعلمت من الممارسة السياسية في الأحزاب والنقابات وغيرها، وضمنها نخبة إصطنعها النظام بالرشوة في الإنتخابات وغيرها من الممارسات. إذن، النخبة في المغرب متسعة، والكثير منها لا يريد دخول اللعبة، ولا يُستدعى لإستيعابه. هناك نخبة تكونت في الإدارة، ونخب أخرى تكونت في مجال الأعمال والعلوم ولا يجري إستيعابها، وهناك نخبة جديدة أتت بوسائل غير قانونية وغير أخلاقية، وهي تموه على باقي النخب الأخرى. يقع تعويم كل شيء. يبدو لي أنه رغم الصعوبات، ورغم المحنة الإقتصادية والمعاناة والهدر المدرسي ووضعية التعليم العمومي، فإنه قد تشكلت مع الوقت شرائح من النخب، المشكل اليوم هو تحديد نوع الإنفراج الذي يمكن عبره أن تصير النخب الجديدة قابلة للإستيعاب. أنا لست مع منظور أن الفاعل يجب عليه دائما أن يرفض، بل يجب إستيعاب النخب التي لا تسعى إلى البقاء في المنصب وإمتيازاته، بل تريد القيام بشي جدي للبلد. لقد توسعت النخب، وهناك نخب لها مصداقية تقنية أو علمية أو في الأعمال أو مجالات أخرى، لكن إستيعابها يتطلب إحداث الإصلاحات التي يتكلم عنها هؤلاء الناس، وضمنهم أنا، أي إصلاحات في مجال القضاء على الزبونية، والعمل بالإستحقاق وليس بالوساطات العائلية، وحرية المبادرة، ووضع الثقة في الأدمغة الصاعدة، وأنا متأكد أنه رغم ما قلته عن تدهور التعليم، فإن هناك مجالات تكونت فيها نخب كثيرة، وحينما تتكون وتصير لها قدرة، فإنها في الغالب تهرب إلى الخارج، بسبب ضيق الآفاق.
حول هذه الفكرة لدي سؤالان، أولا، تحدثت عن إستيعاب النخب، وأنه لا يستدعى نوع من النخب. في لجنة النموذج التنموي مثلا، رأينا أن فيها وجوها لم يسبق المناداة عليها من قبل وهي معروفة بإنتقادها للدولة، ورغم ذلك نودي عليها للإستفادة من كفاءاتها، مثل كريم التازي وإدريس كسيكس… هل هي بادرة أولى؟
هادشي بحال لجنة الدستور، بخصوص النواة التي تسير، نجد أن الإختيار يقع دائما على شخص لا شك في ولائه، وفي الباقي هناك تنوع. الآن أنا أبلغ سبعين سنة من العمر، وقد اشتغلت أربع سنوات في مصلحة الري في ورزازات مع المهندسين، حينها كانت عدد المهندسات قليلا، وبعد ذلك في المعهد الزراعي. هناك كفاءات كبيرة لم أرها ضمن الأسماء المعلنة في اللجنة، وهي كفاءات ليست ضد النظام بل معه، ولم يُستفد منها في لجنة النموذج التنموي الجديد. مثلا، في التنمية القروية، فهناك من قاموا بمشاريع وسهروا عليها ويعرفون العقبات، لم أر أحدا منهم في اللائحة. الكثير من هؤلاء ممن تكونوا في الميدان نخسر كفاءاتهم لأنه لم يتصل بهم أحد للمشاركة.
لو نودي عليك للإسهام في لجنة النموذج التنموي بآرائك وخبرتك، هل كنت ستقبل ؟
هناك أمران: الأول مسطري، فلو أن رئيس اللجنة أو أحد أعضائها كتب يطلب مني أن أكتب بعض الصفحات بخصوص رأيي، كنت سأفعل. وكنت سأقترح عليه أشخاصا آخرين ممن أعرف كفاءتهم، وليس فقط أنا. هذا هو المشكل، لو كاتبني أحد لأعطي رأيا مكتوبا، فكنت سأرحب بذلك، فليس عندي أي مشكل بشأن ذلك، ولا يمكن أن يكون. لا يمكن أن تبخل بشيء تعرفه، خاصة حينما يتعلق الأمر بالدولة والبلد. وأنا، في كل الأحوال، أكتب دون أن يسألني أحد عن رأيي. لكن، ولو سألني أحد، كيفما كان موضعه في هرم الدولة، كنت سأجيب.
قلت إن هناك نخبا تتكون في مجالات عدة، لكنها تهاجر إلى الخارج؟ هل نزيف هجرة هذه النخب سببه فقط السعي إلى تحسين الظروف المادية ؟ وما ضرر هذا النزيف على البلد ؟
أنا لا أبحث عن شيء مثالي مائة في المائة، بل عن أمور واقعية. أولا، هناك فوارق موضوعية بين بلدنا وبلدان أخرى كفرنسا أو أمريكا أو ألمانيا، وتلك الفوارق لا بد أن تدفع بعدد من الناس الأكفاء إلى محاولة الخروج من البلد، حيث تُحترم مهنيتك وشهادتك وتكوينك، وكذلك الأمر من ناحية الراتب وكيفية العيش. الشخص الذي تكون في مجال ما، يريد أن يظهر تكوينه في ما ينجزه وفي وسط يعترف به وبأهليته، ويعترف به معنويا وماديا، وألا يتدخل أحد في حياته الشخصية. هذه الفوارق بين بلدنا والبلدان التي يهاجر إليها الناس اليوم، لا يمكن أن نقضي عليها في عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، بل هي مرتبطة بمسار تاريخي. لكن، إذا استوعب المسؤولون أن تلك الظروف هي التي يبحث عنها الناس، وبدؤوا الاشتغال عليها لتحسينها جزئيا شيئا فشيئا، فهذا يمكن أن يحسن الوضع ويعيد الثقة إلى عدد من الناس لكي يظلوا في البلد، لكن المشكل معقد. حينما يشعر الشباب بأن السلطة تفكر في هذه المشاكل بجدية، وتعمل على إصلاحها، فإنهم سيصبرون. لا يشعر الشباب بأنه معترف به انطلاقا مما يستحق. الملاحظ أن الناس الذين يهربون إلى الخارج، حينما ينجحون، يرغبون دائما في العودة إلى المغرب، وهم متعلقون بالبلد، وإذا منحتهم شيئا من الإصلاح، وليس كل شيء، فيمكن أن يتنازلوا عن بقية الأمور في الخارج ويعودوا، لكن إذا «وقفتيهم على الصح»؛ على الاستحقاق في الشعب وفي المقاولات، وعلى الحرية، وهذا أمر أساسي. يمكن أن نتخيل شابا مهندسا أو إطارا في أي مجال يتجول مع سيدة يريد التعرف عليها، فجأة تقف عليه الشرطة وتسأله: «شكون هادي؟». هذا أمر غير مقبول، فمازالت الدولة أو الأجهزة تتحكم في الحريات الشخصية وحرية التعارف، وهذا أمر غير مستساغ. كيف يمكن أن تقنع الناس بالبقاء في المغرب، وهناك أجهزة مازالت إذا قلت كلمة لا تعجبها، تعتقلك وتحاكمك عبر قضاء يخرق القانون؟ كيف يمكن إقناع الناس بألا يهاجروا؟ والغريب أن هناك من يحاول الهجرة حتى في أيام الحجر الصحي، وهذا يعبر عن شيء قوي؛ إنهم يريدون الهرب، رغم أنهم يعرفون أن تلك البلدان فيها عدوى وموت.
لا أظن أن هذه الأطر التي تهرب إلى الخارج تُشترى، كما يقول البعض، بل إن ما يتوق إليه الشباب هو منظومة فيها وضع مادي محترم واستقرار وطمأنينة سيكولوجية على مستقبل الفرد، وأنه إذا إشتغل بجدية سيتمكن من أن يبني حياة تبعث على الاطمئنان. من يقول إن الأمر مرتبط فقط بالجانب المادي، لا يريد تفكيك العوامل الداخلية التي تدفع الشباب إلى اليأس.
في وسطنا الصحافي، يكثر الحديث علنا وسرا عن الرغبة في مغادرة المغرب أو مغادرة المهنة ؟
هناك من يغادرون المغرب ويبقون متشبثين بالمهنة، وغالبا يكون رحيلهم مرتبطا بأسباب سياسية تعرقل ممارستهم عملهم بمهنية وشرف، والدليل أنهم يكتبون في جرائد في الخارج، إذن، هؤلاء هربوا على مضض خوفا من السجن أو من المحاكمات المعروفة، أو من التهديد والتشهير، وطبعا الذين يغيرون المهنة ربما يجدون ما يناسبهم أكثر في الخارج. لكن الذين يكونون مضطرين إلى المغادرة، يعانون ويعيشون الويلات شهورا أو حتى عدة سنين قبل تسوية وضعيتهم، فهم لا يغادرون سوى لأنهم مكرهون، وليس حبا في المغادرة، بل لأنهم لم يجدوا مجالا يعملون فيه بمهنية وشرف، بل وجدوا القمع وأمورا تعرقل مهنيتهم.
أظن أنه بالنسبة إلى الصحافيين والفئات التي لها رأي لا يتماشى مع الفكر الأحادي للسلطة –وهذا الفكر الأحادي سائد حتى في عدد من الأحزاب والمؤسسات الأخرى وليس فقط في النظام– هناك خروقات جديدة لحقوق الإنسان تستهدف هذه الفئة، ويمكن أن أقول إنها خروقات جسيمة مستجدة. اليوم عدنا نوع منظم وممنهج من القمع يستهدف حرية الرأي والتعبير وحرية التنقيب على المعلومة وحرية التعليق، وهذه هي مهنة الصحافة. وهذا يظهر للعيان، فكلما ظهر صحافي له رأي صائب وله معلومات، لكنه لا يساير الاتجاه السائد، لا يُلقى القبض عليه لأن ما يقوله هو خبر زائف مثلا. طبعا هناك صحافيون آخرون يتابعون بتهمة نشر الإشاعة، وأنا لا أعارض ذلك إذا كان صحيحا، لكني أرى أن المستهدف هم الصحافيون الذين يتحرون المعلومة. مثلا، في قضية سليمان الريسوني، لا أظن أنه جرى استنطاقه في يوم من الأيام حول خبر زائف مثلا. بل صار القمع يتجلى في توظيف القانون الجنائي والبحث عن جنحة، والمخيف أن تلك الجنح لها علاقة بالجنس وبممارسات جنسية غريبة، كالتي ألقي القبض بسببها على بوعشرين أو سليمان، والتي نستغربها ونشك فيها. إذن، هذه مرحلة خروقات جسيمة جديدة في ما يخص حق الكتابة والتعبير، وهذا الخرق يخلق رعبا في قلوب الصحافيين وكتاب الرأي بصفة عامة، والخوف على العائلة والحياة الشخصية، وهو وسيلة قمع وضغط رهيبة. يجب إستيعاب أن هذه مرحلة جديدة، ليس فقط في التراجعات الحقوقية، بل هناك آليات جديدة تخرق الحقوق بصفة عنيفة، ولا يتجلى العنف حاليا في الضرب والتهديد، بل في إلقاء القبض على الناس بكيفية لا تحترم القانون، ثم اتهامهم بملفات قذرة، تكون غالبا ذات طبيعة جنسية.
هناك رأي يقول: كلما حدث اعتقال صحافي أو متابعته، تكرر الحديث عن استهدافه، هل الصحافيون ملائكة؟ ألا يمكن أن يرتكبوا أمورا مخلة بالقانون أو بالأخلاق؟
طبعا ليسوا ملائكة، الصحافيون والصحافيات هم بشر مثلنا، لكن ينبغي إذا وجهت إليهم تهم متعلقة بالجنس أو السرقة، أن تكون هناك دلائل مقنعة. هناك أمور لا يمكن تقبلها، كأن تنطق صحافة التشهير بحكمها قبل أن تتحرك حتى النيابة العامة. المشكل ليس ملائكية الصحافيين، المشكل هو عدم التقيد بالقانون، واستعماله ضد الناس، وأن يصير سلاح حرب ضدهم. المفروض أن القانون يحمي الناس من أي جريمة، وأن يحميهم كذلك من صحافي متحرش أو يهتك عرض الناس، كيفما كانت انتماءاته السياسية أو خطه التحريري. إذن، أنا لا أقول إن المهداوي أو توفيق أو سليمان هم ملائكة، رغم أن ما أعرفه عن قرب عن توفيق وسيلمان، مثلا، يجعلني أشك في التهم الموجهة إليهما، وما يعزز شكي هو الانتهاكات التي تعرفها مسطرة الاعتقال والمس بقرينة البراءة. كان ينبغي التحقيق مع سليمان في حالة سراح، ولا أرى مبررا للتحقيق معه وهو في سجن عكاشة. ثانيا، إذا ارتكبت الصحافية أو الصحافي جريمة في حق شخص كيفما كان؛ امرأة أو رجل أو مثلي أو غير مثلي، يجب أن يحمي القانون الطرفين معا، أي حتى الطرف الذي من المحتمل أن الصحافي ارتكب بحقه تلك الجريمة. إذن، القانون لا يميز بين الناس، فإذا كانت شكاية السيد الذي اتهم سليمان مدعومة بالأدلة، فأنا مستعد لأن أدعمه، لكن أن تكون الواقعة حدثت قبل سنتين، وتحدثت عنها جرائد قبل أن يُستدعى الريسوني، فكل هذه الأمور يلفها غموض كبير، وأنا أشك فيها، وأعتقد أننا إزاء تصرفات تخرق حقوق الإنسان، وألح على أننا في هذا الجانب عدنا إلى الخروقات الجسيمة، ليس عن طريق التعذيب والضرب، وإنما بالقضاء على حياة الناس وعائلاتهم وحياتهم المهنية والعائلية، وزرع الرعب في قلوب الآخرين.
قامت الدولة بالعديد من الإجراءات خلال أزمة كورونا، وأعطت انطباعا بأن صفحة جديدة فتحت، وفي الوقت نفسه، ظهرت سلوكات بعض رجال ونساء السلطة أعادت الحديث عن أن «حليمة عادت إلى عادتها القديمة»، هل تلحظ وجود تغير في العلاقة بين الفرد والسلطة أو بين المجتمع والسلطة؟ وهل أحدث الوباء خلخلة في هذه العلاقة، وفي أي اتجاه؟
أنا أحدثك دون تحفظ، ورغم أنني لست في المغرب، لكني أتابع وأشاهد وأقرأ باستمرار. خلال فترة الحجر الصحي، لم يظهر لي أي تغيير في ممارسة السلطة، فهناك لجنة شكلها رئيس الدولة، وليس فيها فقط الإدارة والكفاءات الصحية، بل تضم الجيش كذلك. أنا لم أر تغييرا، فالنظام كما هو تصدى لهذه الفاجعة بالوسائل المألوفة، لا أقول إن هذه الوسائل سيئة، أو غير مجدية. انطباعي أن سلوك السلطة، بالحزم الذي بدا به، بدا أنه يمكن في وقت وجيز أن يتحكم في الموقف الصحي، بل وفي الموقف ككل. طبق المغاربة والمغربيات الحجر الصحي، وتصرفت الدولة بحزم، والحجر الصحي أمر معقول للقضاء على العدوى وللحفاظ على حياة الناس، الذين صبروا وامتثلوا، وهذا أمر عادي، لا يمكن أن أقول إنه يعبر عن تلاحم بين الدولة والشعب، أو أعاد الثقة أو لم يعدها. ليست هناك مؤشرات. ما أراه هو أن الدولة تصرفت بحزم، ونظمت الأمور بشكل جيد. وحسب التقارير والأخبار، هناك نجاح؛ نجاح الدولة ونجاح شرائح كبيرة من الطاقم التقني، خاصة الأطباء والممرضين والممرضات، وهذه الشرائح قامت بواجبها بنكران كبير للذات. هذا لا يمكن أن أعتبره مؤشرا على الثقة في الدولة. هذا مؤشر على أن الناس استوعبوا أن هناك خطرا، وأن الدولة قامت بتعبئة الوسائل التي يمكن أن تمكن البلاد من الخروج من الخطر. أمر ثان أود إثارته، وهو اللحمة الشعبية، حيث لايزال الناس يتضامنون في ما بينهم، والجيران الضعفاء يقدمون العون لبعضهم البعض. هذه اللحمة موجودة، هل ساعد فيها النظام أم لا؟ لا نعرف. هذه اللحمة لم تتأثر ولم تتغير بتغير العهود، فهي كانت موجودة في عهد الحسن الثاني، ومازالت مستمرة الآن. وما يشبه المعجزة هو أنه رغم المعاناة، تظل تلك اللحمة، وهي لحمة سوسيولوجية، لا نعرف كيف يؤثر فيها سلوك الدولة أو نجاحها في محاربة كورونا. قد يقول قائل إن حمودي يريد أن يقول إن الدولة والمجتمع منفصلان، لا، أنا أقول إنه يلزم البحث والتحري، ويجب ألا نتسرع في إطلاق الأحكام. لحمة الشعب موجودة وأنا شخصيا استغربت أنه رغم التحولات الكبيرة في المجتمع، ورغم المعاناة الكبيرة، فإن الناس يتعاونون في ما بينهم، وأنا متيقن أن للنساء دورا كبيرا في هذه اللحمة، كأن هذه اللحمة الاجتماعية تأتي من تلك الرحم. هناك الكثير من التكهنات والآمال، لكني مازلت لا أعرف كيف سيكون المستقبل.
أظهر الحجر أن الأساسي هو الحياة، وليس الاقتصاد أو السياسة، وأن السياسة والاقتصاد يجب أن يخدما الحياة بصفتها قيمة.. الحياة للناس جميعا، فقراء وأغنياء، فقيمة الحياة هي أغلى قيمة. لقد امتثل المغاربة لقرارات الحجر، رغم أنهم يعرفون أن هناك فوارق كبيرة بين الطبقات الاجتماعية، فالحجر قاس جدا على الطبقات الشعبية. الفقراء حين يمتثلون لا يحافظون على حياتهم فقط، بل يحافظون على حياة الأغنياء كذلك، وكأن هناك تعاضدا رغم الفوارق بين الطبقات. وكذلك الأغنياء، إذا حافظوا على حياتهم، فهم يحافظون على صحة المجتمع ككل… فحينما نحافظ على حياتنا وحياة الآخرين، هل يمكن أن نفكر في شيء غير الصحة؟ إذن، يظهر الامتثال أن القيمة الأولى هي الحياة، وأنه كيفما كانت وضعية الفقراء، فإنهم حينما يمتثلون، فإنهم يحمون حياتهم وحياة الأغنياء، وإذا كانوا يحمون حياة الأغنياء، فعلى هؤلاء أن يقتنعوا بأن حياة الفقراء لها ثمن كبير، وأنها من القيم التي يجب الحفاظ عليها.
تحدثت عن قيمة الحياة، بعين الأنتروبولوجي، ماذا تقول عن الجائحة والبيئة؟
هناك ما يعرف بالأنتروبولوجيا الفيزيائية، والأنتروبولوجيا بجميع أنواعها كان فيها دائما اعتناء بالحياة بصفة عامة؛ اعتناء بقيمة الحياة، واهتمام بتنوع الأنواع على وجه الأرض، وبالارتباط الوثيق بين الأنواع، بما فيها الماء والأرض والنبات وحياة الحيوان، بشكل لا يوجد في علوم أخرى. طبعا، الطب يعرفها، لكن يدركها الأطباء الذين يخالطون أنواع الحياة كلها، ولا يغلقون على أنفسهم في المصحات في المدن، إذ يدركون أنه منذ القديم والأنتروبولوجيا تنبه إلى خطر القضاء على الأنواع وتقلصها، وما ينجم عنه من مخاطر كبرى، إذ منذ قرون والرأسمالية تستغل الكرة الأرضية كأنه لا وجود لشيء غير البضاعة والربح. هذه الفواجع الرأسمالية التي أضرت بالغابات والمياه، وقلصت أوكار الأنواع، بدأت تضيق عليها المجالات. فالكثير من الأمراض والجراثيم تنتقل من حيوان إلى آخر، لذلك، يطلب من الإنسان الحفاظ على مساحة بين الأنواع الحيوانية، وكذا بينها وبين البشر، وإذا حافظ البشر على البيئة، ولم يخلوا بتوازنها، فإن ذلك سيكون مفيدا في عدم ظهور الأمراض. أرى أن هناك أمورا تقع في المغرب ولا تحظى بالاهتمام. مثلا، كانت هناك خنازير برية تجوب حي الرياض بالرباط، وإذا ذهبت إلى غابة المعمورة وضواحيها وبين الرباط والبيضاء، تجد أن هناك مدرسة جغرافية عجيبة، وهناك ما نسميه «الضايات» التي تمتلئ في فصل الشتاء بالمياه، ما يجعلها تجذب الحيوانات والطيور، ضمنها «طير بقر» l’aigrette. الآن إذا ذهبنا سنجد أن تلك «الضايات» أصبحت إما مكانا لبنايات أو مطارح للنفايات. في شالة، هناك شجر له عدة قرون، لكنه يبس بسبب كثرة «طير بقر» المعششة فوقه، ثم إن فضلات هذه الطيور مسمومة. في دول رأسمالية مثل فرنسا، رغم أن الدولة تخرق القواعد البيئية، فإن هناك منظمات تدافع عن البيئة، لكن عندنا في المغرب لا يعطى ملف البيئة مثل هذا الاهتمام. لاحظنا في السنوات الأخيرة كيف ظهرت قضية النفايات الإيطالية، وبعد ذلك جرى طمسها. لذلك، أعتبر أن هناك وجها قبيحا للنيوليبرالية في المغرب مادامت لا توجد قوانين وشعور بمخاطر الإضرار بالبيئة. إذا كان هناك اليوم تفكير في هذا الاتجاه، فيجب أن ينصب على التحذير من مخلفات الرأسمالية بالمغرب في اتجاه المحافظة على البيئة والحياة، لأننا حين نحافظ عليهما فإننا نحافظ على صحة البشر والحيوان.